اغتيال أبومسلم الخراساني
حقيقة الدور الذي لعبه أبومسلم في قيام الدولة العباسية
يعجب الأنسان وهويقرأ مادار من صراع عنيف بين أبي مسلم الخراساني، الذي استطاع أن يقوض الخلافة الأموية، ويسلم الخلافة لبني العباس، وبين أبي جعفر المنصور الذي يعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وقد بلغ الخلاف بين أبي مسلم والمنصور إلي درجة يستحيل التوفيق بينهما مما أدي في النهاية إلي مقتل أبي مسلم الخراساني.
ولكن ما سر نشوب الخلاف بين هذين الرجلين، مع أن الأول كان يعمل لخدمة النظام العباسي، والثاني كان علي قمة هذا النظام ؟ّ!
لاشك أن وراء ذلك مايجري داخل النفس البشرية من صراعات وطموحات وأمان وأمال.
أبو مسلم الخراساني كان يتصور أن الدور الذي قام به في خدمة الخلافة العباسية بمثابة سياج يحميه من أهواء الخلفاء، وأنه لم يفكر لحظة واحدة أن كل ماقدمه من خدمات يمكن أن ينهار في لحظة واحدة أمام الوضع الجديد..
والوضع الجديد هو هذه الخلافة التي تريد أن توطد أركانها، وتزيل من أمامها كل مايقف في سبيلها من عقبات، والتخلص من أي مخاوف قد تنتاب هؤلاء الخلفاء عندما يرون أن هناك من ينافسهم في الزعامة، وأن هذا من الممكن أن يزعزع الثقة في ملكهم، ومن هنا يبدأ الصراع.
كان المنصور داهية.. شديد المراس، شديد الذكاء وكان حريصا كل الخرص أن يكون هو رجل الدولة الأول، وأنه لايمكن لأحد أن يعلو صوته بجانب صوته!
وكان أبو مسلم الخراساني شديد الاعتداد بنفسه.. شديد الحرص علي مكانتة في خراسان، بعد أن هزم جيوش الأمويين، وفتح الطريق أمام الخلافة العباسية.
وكان من الصعب أن يلتقي الشخصان!
وكان الصعب أن يتفاهما، خاصة أن أبا مسلم طالما تجاهل المنصور عندما كان وليا للعهد، ولم يعامله معاملة الخليفة القادم بعد أخيه أبي العباس.
ولم ينس أبوجعفر المنصور ذهابه إلي خراسان عندما تولي أخوه
أبو العباس الخلافة، وكان هو وليا العهد، وقد ذهب لأخذ البيعة لأخيه كخليفة، وله كولي للعهد، وفي خراسان رأي أبوجعفر المنصور نفوذ أبي مسلم وسطوته، كما لاحظ عدم الحفاوة به كولي للعهد للخلافه العباسية..
كما رأي أبوجعفر المنصور مدي التفاف الناس حول أبي مسلم واحترامهم الشديد له، كما رأي أيضا اعتداد أبي مسلم بنفسه، فهو يشعر بأنه هوالذي أسقط الخلافة الأموية، ولولاه ما ظهرت دولة بن العباس.
ولكن أبا مسلم مع عبقريته العسكرية، وذكائه المفرط، قد خانه ذكاؤه، فالذي أمامه ليس كأخيه أبي العباس، ولكنه شديد الذكاء شديد الطموح.. ماضي العزيمة.. لايتورع أن يتخلص من أقرب الناس إليه لو وجد فيه مايحول بينه وبين تحقيق طموحاته، وأنه لم يعد ينظر إلي أبي مسلم إلا أنه أحد ولاته علي إقليم خراسان، وأنه من الممكن أن يزيحه من مكانه إذا اقتضي الأمر ذلك، عندما تحين الفرصة، ولكن لايستطيع أن يفعل شيئا في هذه الظروف لأن أخاه الخليفة شديد الاعجاب بأبي مسلم، وأيضا يشعر بمدي ماقدمه من خدمات للخلافة العباسية.
***
ولم ينس له المنصور أبدا أنه عندما كان وليا للعهد، ودخل أبومسلم علي الخليفة وكان هو موجودا، وسلم أبو مسلم علي الخليفة وتجاهل المنصور، حتي أن الخليفة لاحظ ذلك، ورنا بصره إليه، ولكن أبا مسلم
قال له:
: 'إني قد رأيته ولكن هذا مقام لايقضي فيه حق غيرك'
وبهذا التصرف الذكي استطاع أبومسلم أن يتخلص من هذا الموقف حتي لايغضب عليه الخليفة، ولكنه بالطبع لم يكن يأبه بغضب المنصور!!
***
وحدث أن ذهبا معا إلي الحج: المنصور وأبو مسلم، وفي هذه الرحلة حاول أبومسلم أن يظهر للناس مدي قوته فأغدق علي الجميع، علي عكس المنصور، وفي الحج علما بوفاة الخليفة، فبايع أبومسلم المنصور بعد تردد، وعاد المنصور وقد عقد العزم عن التخلص من غريمه المتعجرف، وخاصة عندما كان يسمع أنه كان يتلقي رسائله باستهتار، وثقة زائدة أنه لن يستطيع أن يتخذ ضده موقفا، فهو الحاكم القوي في خراسان، والناس طوع بنانه، وله صولة وجيش قوي، ولن يستطيع الخليفة أن يزحزحه من هذه المكانة الرفيعة التي يتمتع بها في بلاده..!
***
أغراه المنصور بأن يترك خراسان ويتولي أمر مصر والشام، وأنه يريد أن يستعين بخبرته وقوة قيادته في هذا الأمر، وأنه يمكن أن يرسل من يريد ليتولي أمر مصر ويظل هو يدير مصر والشام من الشام!
ولكن أبا مسلم عرف بنية الخليفة، وآثر ألا يطيع أوامره،،وبدأ الصراع واضحا بين الخليفة وأحد قادته الكبار.. وعرف أن الخليفة يتربص به، ويريد أن يوقع به في أقرب فرصة مواتية له.
وأرسل له الخليفة أن يحضر إليه.. وأرسل هو إلي الخليفة عندما جاءه هذا الاستدعاء.
'إنه لم يبق لأميرالمؤمنين أكرمه الله عدو إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف مايكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون من قربك، حريصون علي الوفاء بعهدك ماوفيت، حريون بالسمع والطاعة، غير أنها من بعيد حيث تقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فأنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أنه تعطي نفسك إرادتها فقضت ما أبرمت من عهدك ضنا بنفسي'.
وبدأ صراع الذكاء
أرسل إليه الخليفة ردا علي هذه الرسالة، قائلا:
'لقد فهمت كتابك، وليست صفتك صفة أولئك الوزراءالغششة ملوكهم الذين يتمنون إضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فّلِمّ سويت نفسك بهم وأنت في طاعتك ومناصحتك واضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر علي ماأنت عليه؟ وليس مع الشريطة التي أوجبت منك سماع ولاطاعة، واسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد بابا يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من طبه من الباب الذي فتحه عليك'.
وأرسل إليه هذه الرسالة، وأوصي حاملها بأن يخاطبه بالرفق والأناة، فإن وجد منه عكس ذلك عليه أن يتوعده بحرب أمير المؤمنين له، وأنه لن ينجو من العقاب.
وأخذ أبومسلم يفكر في الأمر ويستشير أصدقاءه فنصحه بعضهم أن يقيم (بالري) ويصبح بذلك مسيطرا علي مابين (الري) و(خراسان) وهوأوج قوته بين جنوده، وهنا قررأبومسلم عدم الانصياع لأوامر الخليفة، ولكنه في نفس الوقت أدرك خطورة ماأقدم عليه، فالخليفة يعتمد علي الشرعية.. ويعتمد علي النسب حيث ينتسب إلي العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام.
ووجد نفسه تحت ضغوط نفسية هائلة، فمن الصعب تجاهل أوامز هذا الخليفة القوي، وأنه لابد أن يذهب إليه، ولكن كيف ينجو غدر الخليفة؟!
وجاءه رد صديقه 'نيزك'
أما وقد عزمت علي هذا فاحفط عني واحدة، إذا دخلت عليه فاقتله، ثم بايع لمن شئت فأن الناس لايخالفونك
وكتب أبومسلم إلي الخليفة يخبره بأنه قادم إليه!!
***
وفي الطريق كانت تنتابه المخاوف خاصة أن الذين كان يتحدث إليهم في طريق الذهاب إلي الخليفة يحذرونه من مغبة هذا الذهاب، وأن المنصور شديد البطش ولاينسي الإساءة، وكل ذلك جعل ثمة صراع عنيف يدور بينه وبين نفسه، أيواصل السير إلي الخليفة أم يرجع قافلا إلي بلاده؟
ولكنه آثر أن يصفي المشاكل بينه وبين الخليفة، وأن ينهي الخصومة، ولم يكن يدري، أنه ذاهب إلي قدره ومصيره فقد استقبله الخليفة استقبالا حافلا، حتي إذا اطمأن الرجل، استدعاه الخليفة وأخذ يعاتبه عمابدر منه، ثم طلب من حراسه أن يقتلوه، دون أن يستمع إلي توسلاته، وقال له المنصور أتطلب العفو، والسيوف قد اعتورتك من كل جانب.
وقتل الرجل، ورموا جثته في نهر دجلة!
***
ويقول علي أوهم في دراسته عنه:
وطوي عصر المنصور، ودارت الأيام دورتها، وضرب الدهر ضرباته، وتسنم عرش الخلافة أحد أحفاده وهو عبد الله المأمون، جلس ذات ليلة يسمر مع رجال حاشيته، ودار الحديث علي أبطال التاريخ فقال لهم:
أجل ملوك الأرض ثلاثة وهم الذين قاموا بنقل الدول: الاسكندر المقدوني، وأرد شير، وأبومسلم الخراساني!
وقد كان قتل أبي مسلم ضرورة سياسية، ومحاولة جبارة قام بها المنصور لصد تيار النفوذ الفارسي، واستفحال أمره، وأعادها بعده الرشيد بإيقاعه بالبرامكة، وكررها المأمون باغتياله الفضل بن سهل، ولكنهم لم يوفقوا في تلك المحاولة العنيفة التوفيق كله لأن تغيير مجري الحوادث في كثير من الأحوال من وراء ثورة الرجال ولوكانوا من طراز المنصور والرشيد والمأمون.